سورة المؤمنون - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً} بيان النِّعم الفائضة عليهم من جهة الحيوانِ إثرَ بيانِ النِّعم الواصلةِ إليهم من جهة الماءِ والنَّبات وقد بُيِّن أنَّها مع كونِها في نفسِها نعمةً ينتفعون بها على وجوهٍ شتى عبرةٌ لا بدَّ من أنْ يعتبرُوا بها ويستدلُّوا بأحوالها على عظيم قُدرة اللَّهِ عزَّ وجلَّ وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخُصَّ هذا بالحيوان لما أنَّ محلَّ العبرة فيه أظهرُ ممَّا في النَّباتِ. وقولُه تعالى: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا} تفصيلٌ لما فيها من مواقعِ العبرةِ وما في بطونِها عبارة إمَّا عن الألبانِ فمِن تبعيضيةٌ. والمرادُ بالبطونِ الجَوفُ، أو عن العلف الذي يتكوَّن منه اللَّبنُ فمن ابتدائيةٌ والبطون على حقيقتها. وقرئ بفتح النُّونِ وبالتَّاءِ أي تسقيكم الأنعامُ. {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} غيرُ ما ذُكر من أصوافِها وأشعارِها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصُل منها.
{وَعَلَيْهَا} أي على الأنعامِ فإنَّ الحملَ عليها لا يقتضي الحملَ على جميعِ أنواعِها بل يتحقَّقُ بالحمل على البعضِ كالإبل ونحوِها. وقيل المرادُ هي الإبلُ خاصَّة لأنَّها هي المحمولُ عليها عندهم والمناسبُ للفلك فإنَّها سفائنُ البرِّ قال ذُو الرُّمَّةِ:
سفينةُ بَرَ تحتَ خَدِّي زِمامُها ***
فالضَّميرُ فيهِ كما في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي في البرِّ والبحرِ. وفي الجمع بينها وبين الفُلكِ في إيقاع الحملِ عليها مبالغةٌ في تحمُّلِها للحملِ وهو الدَّاعي إلى تأخير ذكرِ هذه المنفعةِ مع كونِها من المنافعِ الحاصلةِ منها عن ذكرِ منفعةِ الأكلِ المتعلِّقة بعينِها.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} شروعٌ في بيانِ إهمال الأُمم السَّابقةِ وتركهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّد من النِّعمِ الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاقَ بهم لذلك من فُنون العذاب تحذيراً للمُخاطبين. وتقديمُ قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ مما لا يخفى وجهُه، وفي إيرادِها إثرَ قوله تعالى: {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} من حُسنِ الموقع ما لا يُوصف. والواوُ ابتدائيةٌ واللاَّمُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. وتصديرُ القِصَّةِ به لإظهارِ كمالِ الاعتناء بمضمونها أي وباللَّهِ لقد أرسلنا نوحاً الخ. ونسبهُ الكريمُ وكيفيَّةُ بعثهِ وكميَّةُ لبثهِ فيما بينهم قد مرَّ تفصيله في سُورة الأعرافِ وسُورة هُودٍ {فَقَالَ} متعطِّفاً عليهم ومستميلاً لهم إلى الحقِّ {يَابَنِى إسراءيل اعبدوا الله} أي اعبدوه وحدَه كما يُفصح عنه قوله تعالى في سُورة هود: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} وتركَ التَّقييدِ به للإيذان بإنَّها هي العبادةُ فقط وأما العبادة بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ رأساً. وقولُه تعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} استئنافٌ مسوقٌ لتعليل العبادة المأمورِ بها أو تعليلِ الأمرِ بها. وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرَّفعُ على أنَّه فاعلٌ، أو مبتدأٌ خبرُه لكُم، أو محذوفٌ.
ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُه تعالى. وقرئ بالجرِّ باعتبار لفظه {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أنفسَكم عذابَه الذي يستوجبه ما أنتُم عليه من ترك عبادتهِ تعالى كما يُفصح عنه قولُه تعالى: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقولُه تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقيل أفلا تخافون أنْ ترفضُوا عبادة الله الذي هو ربُّكم الخ. وليس بذاكَ وقيل أفلا تخافون أنْ يُزيل عنكم نعمَه إلخ وفيهِ ما فيهِ والهمزةِ لإنكارِ الواقعِ واستقباحهِ. والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أتعرفون ذلك أي مضمونَ قوله تعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} فلا تتَّقون عذابَه بسبب إشراكِكم به في العبادة ما لا يستحقُّ الوجودَ لولا إيجادُ الله تعالى إيَّاهُ فضلاً عن استحقاقِ العبادة فالمنكر عدمُ الاتِّقاءِ مع تحقُّق ما يُوجبه، أو ألا تلاحظُون ذلكَ فلا تتَّقُونه فالمنكرُ كلا الأمرينِ فالمبالغةُ حينئذٍ في الكميَّةِ وفي الأوَّلِ في الكيفيَّةِ.


{فَقَالَ الملأ} أي الأشراف {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وصف الملأ بما ذُكر مع اشتراك الكلِّ فيه للإيذان بكمال عراقتهم في الكُفرِ وشدَّةِ شكيمتهم فيه أي قالوا لعوامِّهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي في الجنسِ والوصفِ من غير فرقٍ بينكم وبينَه، وصفوه عليه السَّلامُ بذلك مبالغةً في وضع رتبته العالية وحطِّها عن منصب النُّبوة {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريدُ أنْ يطلبَ الفضلَ عليكم ويتقدَّمكم بادِّعاءِ الرَّسالةِ مع كونهِ مثلكم، وصفوه بذلك إغضاباً للمُخاطبين عليه، عليه السَّلامُ وإغراءً لهم على معاداته عليه السَّلامُ وقولُه تعالى: {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} بيانٌ لعدم رسالة البشر على الإطلاقِ على زعمِهم الفاسدِ بعد تحقيق بشريَّتهِ عليه السَّلامُ أي لو شاء الله تعالى إرسالَ الرَّسولِ لأرسل رُسُلاً من الملائكة وإنَّما قيل لأنزل لأنَّ إرسالَ الملائكة لا يكونُ إلا بطريقِ الإنزالِ، فمفعولُ المشيئة مطلقُ الإرسالِ المفهوم من الجوابِ لا نفسُ مضمونهِ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ} ونظائره. {مَّا سَمِعْنَا بهذا} أي بمثل هذا الكلامِ الذي هو الأمرُ بعبادة الله خاصَّةً وتركُ عبادة ما سواه. وقيل بمثل نوحٍ عليه السَّلامُ في دعوى النُّبوة {فِى ءَابَائِنَا الأولين} أي الماضين قبل بعثتهِ عليه السَّلامُ قالوه إمَّا لكونهم وآبائهم في فترة متطاولةٍ وإما لفرطِ غلوِّهم في التَّكذيبِ والعناد وانهماكهم في الغيِّ والفساد، وأيَّا ما كان فقولُهم هذا ينبغي أنْ يكونَ هو الصَّادُّ عنهم في مبادي دعوتهِ عليه السَّلامُ كما تُنبىءُ عنه الفاء في قوله تعالى: {فَقَالَ الملا} إلخ وقيل معناه ما سمعنا به عليه السَّلامُ أنَّه نبيٌّ. فالمرادُ بآبائِهم الأوَّلين الذين مضوا قبلهم في زمنِ نوحٍ عليه السَّلامُ. وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخرِ أمرِه عليه السَّلامُ وهو المناسب لما بعدَه من حكاية دُعائهِ عليه السَّلامُ.
وقولهم {إِنْ هُوَ} أي ما هو {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جُنونٌ أو جنٌّ يخيلونه ولذلك يقولُ ما يقولُ {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} أي احتمِلوه واصبِروا عليه وانتظروا {حتى حِينٍ} لعلَّه يُفيقُ ممَّا فيه، محمول حينئذٍ على ترامي أحوالهم في المكابرةِ والعنادِ. وإضرابِهم عمَّا وصفُوه عليه السَّلامُ به من البشرية وإرادةِ التَّفضُّلِ إلى وصفِه عليه السَّلامُ بما ترى وهم يعرفون أنَّه عليه السَّلامُ أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأرزنهم قولاً. وعلى الأوَّل على تناقضِ مقالاتِهم الفاسدةِ قاتلهم اللَّهُ أنَّى يُؤفكون.


{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ كلامِ الكَفَرةِ كأنَّه قيل فماذا قال عليه السَّلامُ بعدما سمع منهم هذه الأباطيلَ فقيل قال لمَّا رآهم قد أصرُّوا على الكفر والتَّكذيبِ وتمادَوا في الغواية والضَّلالِ حتَّى يئسَ من إيمانهم بالكلِّيةِ وقد أوحى اللَّهُ إليه أنه لنْ يؤمنَ من قومك إلاَّ مَن قد آمنَ {رَبّ انصرنى} بإهلاكهم بالمرَّةِ فإنَّه حكاية إجماليَّةٌ لقوله عليه السَّلامُ. {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} إلخ {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إيَّاي أو بدل تكذيبهم {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك {أَنِ اصنع الفلك} أنْ مفسِّرة لما في الوحي من معنى القول {بِأَعْيُنِنَا} ملتبساً بحفظِنا وكلاءتِنا كأنَّ معه عليه السَّلامُ منه عزَّ وعلا حُفَّاظاً وحُرَّاساً يكلؤونه بأعينهم من التَّعدِّي أو من الزَّيغِ في الصَّنعةِ. {وَوَحْيِنَا} وأمرِنا وتعليمنا لكيفيَّة صُنعها والفاء في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صُنع الفُلك. والمرادُ بالأمر العذابُ كما في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} لا الأمرُ بالرُّكوبِ كما قيل وبمجيئه كمالُ اقترابهِ أو ابتداءُ ظهورهِ. أي إذا جاء إثرَ تمامِ الفُلكِ عذابُنا وقوله تعالى: {وَفَارَ التنور} عطفُ بيانٍ لمجيء الأمر. رُوي أنَّه قيل له عليه السَّلامُ إذا فار الماءُ من التَّنُّورِ اركبْ أنت ومن معك وكان تنُّور آدمَ عليه السَّلامُ فصار إلى نوحٍ عليه السَّلامُ فلمَّا نبع منه الماء أخبرتْهُ امرأتهُ فركبُوا. واختُلف في مكانه فقيل كان في مسجدِ الكوفةِ أي في موضعه عن يمينِ الدَّاخلِ من باب كِندة اليوم وقيل كان في عين وَردة من الشَّامِ. وقد مرَّ تفصيلُه في تفسير سُورة هودٍ عليه السَّلامُ {فاسلك فِيهَا} أي أدْخِلْ فيها يقال سَلَك فيه أي دَخَلَ فيه وسَلَكه فيه أي أدْخَلَه فيه. ومنه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} {مِن كُلّ} أي من كلِّ أمِّةٍ {زَوْجَيْنِ} أي فردينِ مزدوجينِ كما يُعرب عنه قوله تعالى: {اثنين} فإنَّه نصٌّ في الفردين دون الجمعينِ أو الفريقينِ. وقرئ بالإضافةِ على أنَّ المفعولَ اثنينِ أي من كلِّ أمتي زوجينِ وهُما أمَّة الذَّكرِ وأُمَّة الأُنثى كالجمالِ والنُّوقِ والحصنِ والرماك. وهذا صريحٌ في أنَّ الأمر كان قبل صُنعه الفُلكَ. وفي سُورةِ هودٍ: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} فالوجهُ أنْ يحملَ إمَّا على أنَّه حكايةٌ لأمرٍ آخرَ تنجيزيَ ورد عند فَوَران التَّنُّورِ الذي نِيط به الأمرُ التَّعليقيُّ اعتناءً بشأن المأمور به أو على أنَّ ذلك هو الأمرُ السَّابقُ بعينه لكن لمَّا كان الأمرُ التَّعليقيُّ قبل تحقُّقِ المعلَّقِ به في حقِّ إيجابِ المأمورِ به بمنزلة العدم جُعل كأنَّه إنَّما حدث عند تحقُّقهِ فحُكي على صورةِ التَّنجيزِ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ} {وَأَهْلَكَ} منصوبٌ بفعل معطوف على فاسلُك لا بالعطف على زوجينِ أو اثنين على القراءتينِ لأدائه إلى اختلالِ المعنى أي واسلُك أهلَك، والمرادُ به امرأتُه وبنُوه. وتأخيرُ الأمر بإدخالهم عمَّا ذُكر من إدخال الأزواجِ فيها لكونِه عريقاً فيما أُمر به من الإدخال فإنَّه محتاجٌ إلى مزاولة الأعمال منه عليه السَّلامُ بل إلى معاونةٍ من أهلِه وأتباعِه. وأمَّا هم فإنَّما يدخلونَها باختيارِهم بعد ذلك ولأنَّ في المؤخَّرِ ضربُ تفصيلٍ بذكر الاستثناء وغيرِه فتقديمُه يؤدِّي إلى الإخلالِ بتجاوبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي القولُ بإهلاكِ الكَفَرةِ وإنَّما جيء بعلى لكون السَّابقِ ضارًّا كما جيء باللامِ في قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} لكونِه نافعاً {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ} بالدُّعاءِ لإنجائهم {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} تعليلٌ للنَّهيِ أو لما ينبىءُ عنه من عدم قبول الدُّعاءِ أي إنَّهم مقضيٌّ عليهم بالإغراقِ لا محالةَ لظُلمهم بالإشراك وسائر المَعَاصي. ومَن هذا شأنُه لا يُشفعُ له ولا يُشفَّعُ فيه كيف لا وقد أُمر بالحمدِ على النَّجاةِ منهم بهلاكِهم بقوله تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} أي من أهلِك وأشياعِك {عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} على طريقةِ قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8